فصل: النوع السابع: الاستكثار من حفظ الأحاديث النبوية على قائلها أفضل الصلاة والسلام:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.النوع السابع: الاستكثار من حفظ الأحاديث النبوية على قائلها أفضل الصلاة والسلام:

وفيه مقصدان:

.المقصد الأول في بيان وجه احتياج الكاتب إلى ذلك:

قال في حسن التوسل: لا بد للكاتب من حفظ الكثير من الأحاديث النبوية، والآثار المروية عن الصحابة رضوان الله عليهم؛ وخصوصاً في السير، والمغازي، والأحكام؛ وتأمل فصاحتها، والنظر في معرفة معانيها وغريبها، وفقه ما لا بد م معرفته من أحكامها لينفق منها على سعة، ويستشهد بكل شيء في موضعه، ويحتج بمكان الحجة، ويستدل بموضع الدليل، ويتصرف عن علم بموضوع اللفظ ومعناه، ويبني كلامه على المقصد إذا استند إلى النص قويت فيه الحجة، وسلم له الخصم، وأذعن له المعاند؛ والفصاحة والبلاغة إذا طلبت غايتها فإنها بعد كتاب الله في كلام من أوتي جوامع الكلم وقال: أنا أفصح من نطق بالضاد.
وقد كان الصدر الأول من الصحابة والتابعيين رضي البله عنهم يحتجون بالحديث، ويستدلون به في مواطن الخلاف والنزاع، فينقاد الجموح يستسهل الصعب، وقد رجع الأنصار يوم السقيفة إلى حديث الأئمة من قريش حيث رواه لهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وأذعنوا له، وبايعوه بعد ما اجتمعوا إلى سعد بن عبادة وقالوا: منا أمير ومنكم أمير. على ما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله. ورجع عمر رضي الله عنه لحديث النهي عن دخول بلد الطاعون فعاد إلى المدينة بعد أن قارب الشام حين بلغه أن به الطاعون. وقال علي رضي الله عنه في حق الأنصار: لو زالوا لزلت معهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أزول معكم حيث ما زلتم».
ثم الذي أشار إليه ابن قتيبة في أدب الكاتب أن الأحاديث التي نيبغي للكاتب حفظها الأحاديث المتعلقة بالفقه وأحكامه: كقوله صلى الله عليه وسلم: «البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه». والخراج بالضمان. وجرح العجماء جبار. ولا يغلق الرهن. والمنحة مردودة. والعارية مؤداة. والزعيم غارم. ولا وصية لوارث. ولا قطع في ثمر ولا كثر. ولا قود إلا بحديدة. والمرأة تعاقل الرجل إلى ثلث ديتها. ولا تعقل العاقلة عمداً ولا عبداً ولا صلحاً ولا اعترافاً. ولا طلاق في إغلاق، والبيعان بالخيار ما لم يتفرقا. والجار أحق بصقبه. والطلاق بالرجال والعدة بالنساء. وكنهية في البيوع عن المخابرة والمحاقلة، والمزابنة، والمعاومة، والثنيا، وعن ربح ما لم يضمن، وعن بيع ما لم يقبض، وعن بيعتين في بيعة، وعن شرطين في بيع، وعن بيع وسلف، وعن بيع الغرر وبيع المواصفة، وعن الكاليء، بالكاليء، وعن تلقي الركبان، وما أشبه ذلك ليغتني بحفظها وتدبر معانيها عن إطالات الفقهاء.
قلت: والحقيق أن حاجة الكاتب لا تختص بأحاديث الأحكام ودلائل الفقه، بل تتعلق بما هو أعم من ذلك خصوصاَ الحكم والأمثال والسير وما أشبه ذلك مما يكثر الاستشهاد به في الكتابة والاقتباس من معانيه. قال في المثل السائرة: وينبغي أن يكون أول ما يحفظه من الأخبار ما تضمنه كتاب الشهاب في المواعظ والآداب للقضاعي، فإنه كتاب مختصر وجميع ما فيه يستعمل لأنه يتضمن حكماً وآداباً، فإذا حفظته وتدربت باستعماله، حصل عندك قوة على التصرف والمعرفة بما يدخل في الاستعمال وما لا يدخل، وعند ذلك تتصفح كتاب صحيح البخاري، ومسلم، والموطأ، والترمذي، وسنن أبي داود، وسنن النسائي، وغيرها من كتب الحديث؛ وتأخذ ما تحتاج إليه وأهل مكة أخبر بشعابها. قال: والذي تأخذه إن أمكنك درسه وحفظه فهو المراد لأن ما لا تحفظه فلست منه على ثقة؛ وإن كان لك محفوظات كثيرة: كالقرآن الكريم، ودواوين كثيرة من الشعر، وما ورد من الأمثال السائرة، وغير ذلك مما تقدمت الإشارة إليه وما يأتي ذكره، فعليك بمداومة المطالعة للأخبار، والإكثار من استعمالها في كلامك، حتى ترتقم على خاطرك فتكون إذا احتجت منها إلى شيء وجدته، وسهل عليك أن تأتي به ارتجالاً، فتأمل ذلك واعمل به. ثم قال: وكنت جردت من الأخبار النبوية كتاباً يشتمل على ثلاثة آلاف خبر تدخل كلها في الاستعمال، وما زلت أواظب مطالعته مدة تزيد على عشر سنين، فكنت أنهي مطالعته في كل أسبوع مرة حتى دار على ناظري وخاطري ما يزيد على خمسمائة مرة وصار محفوظاً لا يشد منه عني شيء.

.المقصد الثاني في بيان كيفية استعمال الأحاديث والآثار في الكتابة:

قال الوزير ضياء الدين بن الأثير واعلم أن أكثر الأحاديث، تدخل في الاستعمال، ولا يخرج عنه إلا القليل النادر، ولقد دار بيني وبين بعض علماء الأدب في هذا الأسلوب كلام فاستوعره واستنكره، وقال: هذا لا يتهيأ إلا في الشيء اليسسير من الأخبار النبوية. - فقلت لا، بل يتهيأ في الأكثر منها- فقال قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه اختصم إليه في جنين فقضى على من أسقطه بغرة عبد أو أمة، فأين تستعمل هذا؟ فأفكرت فيما ذكره ثم أنشأت هذا الفصل من الكلام، وأودعته فيه وهو: قد كثر الجهل حتى لا يقال فلان عالم وفلان جاهل. وضرب المثل بباقل وكم في هذه الصورة الممثلة من باقل، ولو عرف كل إنسان قدره لما مشى بدن إلا تحت رأسه، ولا انتصب رأس إلا على بدنه، ولكان صاحب العمامة أحق بعمامته وصاحب الرسن أحق برسنه. وكنت سمعت بكاتب من الكتاب كلمه إلى غثائة لا يستنسر وأي بطش لبغاثة. وإذا وجب الوضوء على غيره بالخارج من السبيلين، وجب عليه من سبل ثلاثة. هذا وهو يدعي أنه في الفصاحة أمة وحده، ومن قس إياد أو سحبان وائل عنده، وإذا كشف خاطره وجد بليداً لا يخرج عن العمه والكمه وإن رام أن يستنتجه في حين من الأحيان قضى عليه بغرة عبد أو أمة، وكثيراً ما يتقدم ونقيصته هذه على الأفاضل من العلماء، وقد صار الناس إلى زمان يعلو فيه حضيض الأرض على هام السماء. فلما أوردته عليه، ظهرت أمارة الحسد على صفحات وجهه مع إعجابه به واستغرابه فيه إياه.
ثم قال: وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحديث وهو: «لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة ولا تمثال». فهذا أين يستعمل من المكاتبات؟ فترويت في قوله تروياً يسيراً ثم قلت: هذا يستعمل في كتاب إلى ديوان الخلافة، وأمليت عليه الكتاب، فجاء هذا الحديث في فصل منه، وهو: «إذا أفاض الخادم في وصف ولاته، نكصت همم الأولياء عن مقامه، وعلموا أنه أخذ الأمر بزمامه، فقد أصبح وليس بقلبه سوى الولاء والإيمان، فهذا يظهر أثره في طاعة السر وهذا في طاعة الإعلان؛ وما عداهما فإن دخوله إلى قلبه من الأشياء المحظورة، والملائكة لا تدخل بيتاً فيه تمثال ولا صورة، فليعول الديوان العزيز منه على سيف من سيوف الله يفري، بلا ضارب، ويسري، بلا حامل، ولا يسل إلا بيد حق، ولا يغمد إلا في ظهر باطل. وليعلم أن كرشه وعيبته في تضمين الأسرار، وأنه أحد سعديه إذا عدت مواقف الأنصار». فلما رأى هذا الفصل بهت له وعجب منه. قال: ولم أقنع بإيراد الحديث الذي ذكر حتى أضفت إليه حديثاً آخر، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الأنصار كرشي وعيبتي».
ثم تضمين الكلام شيئاً من الأحاديث على ما تقدم في القرآن الكريم؛ فينقسم إلى الاستشهاد والاقتباس على ما تقدم.
فأما الاستشهاد فهو أن يضمن الكلام شيئاً من الحديث، وينبه عليه: كقول أبي إسحاق الصابي في وصية عهد من خليفة السلطان: وأن يقوم بما يعقده الرجل نم عرض المسلمين، فإن ذمته ذمة جميع المؤمنين، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلمون يسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم».
وكما كتب بعض الكتاب في صدر كتاب لديوان الخلافة: والحمد لله على أن صار إلى أمير المؤمنين ميراث الطاهرين من آبائه، وخصه بما حاز له العباس رضوان الله عليه «ألا أبشرك يا عم! بي ختمت النبوة وبولدك تختم الخلافة» وكقوله من عهد آخر: وأمره أن يضع الرصد على من يختار في الحمالة من أباق العبيد، والاحتياط عليهم وعلى ما يكون معهم، إلى أن قال: وأن يعرفوا اللقط ويتبعوا أثرها، ويشيعوا خبرها، فإذا حضر صاحبها وعلم أنه مستوجبها، سلمت إليه، ولم يعترض فيها عليه. والله جل وعز يقول: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها}. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ضالة المؤمن حرق النار» إلى غير ذلك من الاستشهادات.
وأما الاقتباسات فهو أن يضمن الكلام شيئاً من الحديث ولا ينبه عليه.
فمن ذلك ما ذكره الحريري في مقاماته من قوله: وكتمان الفقر زهاده وانتظار الفرج بالصبر عباده. وقوله: شاهت الوجوه، وقبح الهكع ون يرجوه.
وقد أكثر الوزير ضياء الدين بن الأثير من هذا الباب.
فمن ذلك قوله في دعاء كتاب: أعاذ الله أيامه من الغير، وبين بخطر مجده نقص كل خطر. وجعل ذكره زاداً لكل ركب، وأنساً لكل سمر. ومنحه من فضله ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. أخذ ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم في وصف نعيم الجنة «فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر». فنقله إلى الدعاء.
ومن ذلك ما ذكره في النصر على العدو في مواطن القتال، وهو أخذ بسنة رسول الله في النصر الذي نرجوه، ونبذنا في وجه العدو كفاً من التراب وقلنا شاهت الوجوه، فثبت الله ما تزلزل من أقدامنا، وأقدم حيزوم فأغنى عن إقدامنا. أخذا المعنى الأول من حديث غزوة حنين وأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ قبضة من التراب وألقى بها في وجوه الكفار وقال: «شاهت الوجوه» وأخذ المعنى الثاني من حديث غزوة بدر: وذلك أن رجلاً من المسلمين لاقى رجلاً من المشركين وأراد أن يضربه فخر على الأرض ميتاً قبل أن يصل إليه، وسمع الرجل المسلم صوتاً من فوقه وهو يقول أقدم حيزوم فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: «ذلك من مدد السماء الثالثة».
ومن ذلك ما ذكره في ضيق مجال الحرب، وهو: وضاق الضرب بين الفريقين حتى اتصلت مواقع البيض الذكور، وتصافحت الغرر بالغرر والصدور بالصدور. واستظل حينئذ بالسيوف لاشتباك مجالها وتبوئت مقاعد الجنة التي هي تحت ظلالها. أخذ ذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الجنة تحت ظلال السيوف».
ومن ذلك ما ذكره في وصف بعض البلاد الوخمة، وهو: ومن صفاتها أنها مدرة مستوبلة الطينة، مجموع لها بين حر مكة ولأواء المدينة. إلا أنها لم يؤمن حرها من الخطفة، ولا نقلت حماها إلى الجحفة. أخذ المعنى الأول من قوله صلى الله عليه وسلم: «من صبر على حر مكة ولأواء المدينة ضمنت له على الله الجنة». والمعنى الثاني من قوله صلى الله عليه وسلم في دعائه للمدينة: «اللهم حببها إلينا كما حببت إلينا مكة وانقل حماها إلى الجحفة» ورشح ذلك بمعنى قوله تعالى: {أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم} حيث قال إلا أنها لم يؤمن حرها من الخطفة.
ومن ذلك ما ذكره في وصف كريم، وهو: فأغنى بجوده إغناء المطر، وسما إلى المعالي سمو الشمس وسار في منازلها مسير القمر. ونتج من أبكار فضائله. ما إذا ادعاه غيره قيل للعاهر الحجر. أخذ ذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الولد للفراش وللعاهر الحجر». إلى غير ذلك من مقتبساته المستكثرة، واستنباطاته التي هي غير قاصرة ولا مستنكرة.
ومن ذلك ما ذكرته أنا في المفاخرة بين السيف والقلم، وهو: وبدأ القلم فتكلم، ومضى في الكلام بصدق عزم فما توقف ولا تلعثم؛ فقال باسم الله تعالى أستفتح، وبحمده أتيمن وأستنجح؛ إذ من شأني الكتابة، ومن فني الخطابة، وكل أمر ذي بال لا يبدأ فيه باسم الله تعالى، فهو أجذم، وكل كلام لا يفتتح بحمد الله فأساسه غير محكم. أخذت ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه باسم الله أو بحمد الله فهو أجذم». على اختلاف الرواية في ذلك.
واعلم أنه كما يحتاج الكاتب إلى حفظ الأحاديث والآثار بطريق الذات للاستشهاد بها، والاقتباس من معانيها على ما تقدم بيانه، كذلك يحتاج إلى المعرفة بأنواع الحديث وأقسامها: كالصحيح والحسن، والمرسل، والمرفوع، والمسند، والمتصل، والمنقطع، ونحو ذلك. وكذلك المعرفة بأسماء الرجال، والمشاهير من المحدثين: كالبخاري، ومسلم، وأبي داود، والنسائي وغيرهم: ليورد ما يحتاج إليه من ذلك في غضون كلامه عند احتياجه إليه في كتابة ما يتعلق بذلك من توقيع محدث ونحوه كما قال في التعريف في وصية لمحدث في قسم الوصايا من الكتاب وقد أصبح بالسنة النبوية مضطلعاً، وعلى ما جمعه طرق أهل الحديث مطلعاً، وصح الصحيح أن حديثه الحسن، وأن المرسل منه في الطلب مقطوع عنه كل ذي لسن. وأن مسنده هو المأخوذ عن العوالي، وسماعه هو المرقص منه طول الليالي. وأن مثله لا يوجد في نسبه المعرق. ولا يعرف مقدار طلب الطالب فإنه طال ما شد له النطاق، وسعى له سعيه وتجشم المشاق. ورحل له يشتد به حرصه والمطايا مزمومه، ويبهه له طلبه والجفون مقفلة والعيون مهمومه. ووقف على الأبواب لا يضجره طول الوقوف حتى يؤذن له في ولوجها، وقعد القرفصاء في المجالس لا تضيق به فروجها. فليعامل الطلبة إذا أتوه للفائدة معاملة من جرب، وليبسط للأقرباء منهم ويؤنس الغرباء فما هو إلا ممن طلب آونة من قريب وآونة تغرب. وليسفر لهم صباح قصده عن النجاح وليفتق لهم منه عقوده الصحاح، وليوضح لهم الحديث، وليرح خواطرهم بتقريبه ما كان يسار إليه السير الحثيث، وليؤتهم مما وسع الله عليه فيه المجال، ويعلمهم ما يجب تعليمه من المتون والرجال، ويبصرهم بمواقع الجرح والتعديل، والتوجيه والتعليل، والصحيح والمعتل الذي تتناثر أعضاؤه سقماً كالعليل. وغير ذلك مما لرجال هذا الشأن به عناية وما ينقب فيه عن دراية أو يقنع فيه بمجرد رواية. ومثله ما يزاد حلماً، ولا يعرف بمن رخص في حديث موضوع أو كتم علماً. وسيأتي ذكر هذه الوصية في موضعها إن شاء الله تعالى: وكما قال الشيخ جمال الدين بن نباتة من جملة توقيع لبعض مدرسي الشام: ولأنه الحافظ الذي أحيا ذكر ابن نقطة بعد ما دارت عليه الدوائر، وأغنى وحده دمشق عمن أتى في النسب بعساكر.

.النوع الثامن: الإكثار من حفظ خطب البلغاء والتفنن في أساليب الخطباء:

وفيه مقصدان:

.المقصد الأول في وجه احتياج الكاتب إلى ذلك:

قال أبو جعفر النحاس: وهي من آكد ما يحتاج إليه الكاتب، وذلك أن الخطب من مستودعات سر البلاغة، ومجامع الحكم، بها تفاخرت العرب في مشاهدهم وبها نطقت الخلفاء والأمراء على منابرهم، بها يتميز الكلام، وبها يخاطب الخاص والعام، وعلى منوال الخطابة نسجت الكتابة، وعلى طريق الخطباء. مشئت الكتاب، وقد قال أبو هلال العسكري رحمه الله في الصناعتين: والرسائل والخطب متشاكلتان في أنهما كلام لا يلحقه وزن ولا تفقيه، وقد يتشاكلان أيضاً من جهة الألفاظ الخطب تشبه ألفاظ الكتاب في السهولة والعذوبة، وكذلك فواصل الخطب مثل فواصل الرسائل. قال: والفرق بينهما أن الخطبة يشافه بها بخلاف الرسالة، والرسالة تجعل خطبة والخطبة تجعل رسالة في أيسر كلفة.
واعلم أنه كان للعرب بالخطب والنثر غاية الاعتناء حتى قال صاحب الريحان والريعان: إن ما تكلمت به العرب من أهل المدر والوبر، من جيد المنثور ومزدوج الكلام، أكثر مما تكلمت به من الموزون إلا أنه لم يحفظ من المنثور عشره، ولا ضاع من الموزون عشره؛ لأن الخطيب إنما كان يخطب في المقام الذي يقوم فيه في مشافهة الملوك، أو الحالات، أو الإصلاح بين العشائر، أو خطبة النكاح؛ فإذا انقضى المقام حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه. بخلاف الشعر فإنه لا يضيع منه بيت واحد. قال: ولولا أن خطبة قس ابن ساعدة كان سندها مما يتنافسه الأنام، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي رواها عنه فأطار ذكرها، ما تميزت عما سواها.
قلت: وليس ما أشار إليه لرفض النثر عندهم وقلة اعتنائهم به، بل لسهولة حفظ الشعر وشيوعه في حاضرهم وباديهم، وخاصهم وعامهم؛ بخلاف الخطابة فإنه لم يتعاطها منهم إلا القليل النادر من الفصحاء المصاقع: فلذلك عز حفظها، وقل عنهم نقلها. وقد كانت تقوم بها في الجاهلية سادات العرب، ورؤساؤهم ممن فاز بقدح القصل وسبق إلى ذرى المجد، ويخصون ذلك بالمواقف الكرام، والمشاهد العظام، والمجالس الكريمة، والمجامع الحفيلة فيقوم الخطيب في قومه فيحمد الله ويثني عليه، ثم يذكر ما سنح له من مطابق قصده وموافق طلبه: من وعظ يذكر أو فخر أو إصلاح أو نكاح، أو غير ذلك مما يقتضيه المقام.
فمن خطبهم في الجاهلية خطبة كعب بن لؤي جد النبي صلى الله عليه وسلم فيما ذكره أبو هلال العسكري في كتاب الأوائل. وهي: اسمعوا وعوا وتعلمُوا تَعْلَموا، وتفهمُوا تَفْهَموا! ليل ساج. ونهار صاج، والأرض مهاد، الجبال أوتاد، والأولون كالآخرين، كل ذلك إلى بلاء، فصلوا أرحامكم، وأصلحوا أموالكم، فهل رأيتم من هلك رجع، أو ميتاً نشر، الدار أمامكم والظن خلاف ما تقولون، زينوا حرمكم وعظموه، وتمسكوا به ولا تفارقوه، فسيأتي له نبأ عظيم، وسيخرج منه نبي كريم. ثم قال:
نهار وليل واختلاف حوادث ** سواء علينا حلوها ومريرها

يؤوبان بالأحداث حتى تأوبا ** وبالنعم الضافي علينا ستورها

صروف وأنباء تقلب أهلها ** لها عقد ما يستحيل مريرها

على غفلة يأتي النبي محمد ** فيخبر أخباراً صدوقاً خبيرها

ثم قال:
يا ليتني شاهد فحواء دعوته ** حين العشيرة تبغي الحق خذلانا

ومن ذلك خطبة قس بن ساعدة الأيادي، بسوق عطاظ فيما نقله أصحاب السير عن إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عنه وهي: أيها الناس، اسمعوا وعوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، ليل داج، ونهار ساج، وسماء ذات أبراج، ونجوم تزهر، وبحار تزخر، وجبال مرساة، وأرض مدحاة وأنهار مجراة. إن في السماء لخبراً، وإن في الأرض لعبرا! ما بال الناس يذهبون ولا يرجعون ارضوا فأقاموا، أم تركوا فناموا؟ يقسم قس بالله قسماً لا إثم فيه إن لله ديناً هو أرضى له وأفضل من دينكم الذي أنتم عليه، إنكم لتأتون من الأمر منكراً! ويروى أن قساً أنشأ بعد ذلك يقول:
في الذاهبين الأولين ** من القرون لنا بصائر

لما رأيت موارداً ** للموت ليس لها مصادر

ورأيت قومي نحوها ** تمضي الأكابر والأصاغر

لا يرجع الماضي إل ** ي ولا من الباقين غابر

أيقنت أني لا محا ** لة حيث صار القوم صائر

قال صاحب الأوائل: يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يعرض هذا الكلام يوم القيامخة على قس بن ساعدة فإن كان قاله لله فهو من أهل الجنة.
ومن ذلك خطبة أبي طالب حين خطب النبي صلى الله عليه وسلم خديجة وهي: الحمد لله الذي جعلنا من زرع إبراهيم، وذرية إسماعيل، وجعل لنا بيتاً محجوباً، وحرماً آمناً. ثم إن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ابن أخي من لا يوازن بأحد إلا رجحه، ولا يعدل بأحد إلا فضله، وإن كان في المال قل فإن المال ظل زائل؛ وله في خديجة رغبة ولها فيه مثلها؛ وما كان من صداق ففي مالي؛ وله نبأ عظيم وخبر شائع.
ومن خطب النبي صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس كأن الموت فيها على غيرنا قد كتب، وكأن الحق فيها على غيرنا قد وجب، وكأن الذي نشيع من الأموات سفر عما قليل إلينا راجعون، نبوئهم أجداثهم، ونأكل من تراثهم كأنا مخلدون بعدهم، ونسينا كل واعظة وأمنا كل جائحة، طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، طوبى لمن أنفق مالاً اكتسبه من غير معصية، وجالس أهل الفقه والحكمة، وخالط أهل الذل والمسكنة، طوبى لمن زكت وحسنت خليقته، وطابت سريرته، وعزل عن الناس شره، طوبى لمن أنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من قوله، ووسعته السنة ولم تستهوه البدعة»!.
ومن خطب أبي بكر الصديق رضي الله عنه فيما ذكره أبو جعفر النحاس في صناعة الكتاب وهي: ألا إن أشقى الناس في الدنيا والأخرة الملوك، الملك إذا ملك زهده الله جل وعز فيما عنده، ورغبه فيما في يدي غيره، وانتقصه شطر أجله، وأشرب قلبه الإشفاق، وإذا وجبت نفسه، ونضب عمره وضحا ظله، حاسبه اله جل ثناؤه وأشد حسابه، وأقل عفوه؛ وسترون بعدي ملكاً عضوضاً، وأمة شحاحاً، ودماً مباحاً؛ وإن كانت للباطل نزوة، ولأهل الحق جولة، يعفو لها الأثر وتموت السنن، فالزموا المساجد واستشيروا القرآن، وليكن الإبرام بعد التشاور، والصفقة بعد التناظر.
ومن خطب عمر رضي الله عنه: أيها الناس! إنه أتى علي حين وأنا أحسب أن من قرأ القرآن إنما يريد الله وما عنده، ألا وإنه قد خيل إلي أن أقواماً يقرأون القرآن يريدون ما عند الناس ألا فأريدوا الله بقراءتكم، وأريدوه بأعمالكم، فإنما كنا نعرفكم إذ الوحي ينزل وإذ النبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، فقد رفع الوحي وذهب النبي عليه السلام، فإنما أعرفكم بما أقول لكم ألا فمن أظهر لنا خيراً ظننا به خيراً وأثنينا به عليه، ومن أظهر لنا شراً ظننا به شراً وأبغضناه عليه؛ اقدعوا هذه النفوس عن شهواتها، فإنها لملقة، وإنكم إلا تقدعوها تنزع بكم إلى شر غاية. إن هذا الحق ثقيل مريء، وإن الباطل خفيف وبي، وترك الخطيئة خير من معالجة التوبة، ورب نظرة زرعت شهوة، وشهوة ساعة أورثت حزناً طويلاً!.
ومن خطب عثمان رضي الله عنه: وقد أنكروا عليه تقديم بني أمية على غيرهم: أما بعد فإن لكل شيء آفة، وآفة هذا الدين وعاهة هذه الملة قوم عيأبون، طعانون، يظهرون لكم ما تحبون، ويسرون ما تكرهون. أما والله يا معشر المهاجرين والأنصار! لقد عبتم علي أشياء ونقمتم مني أموراً قد أقررتم لابن الخطاب بمثلها ولكنه وقمكم وقماً، ودمغكم حتى لا يجترئ أحد منكم يملأ بصره منه ولا يشير بطرفه إلا مسارقة إليه، أما والله لأنا أكثر من ابن الخطاب عدداً، وأقرب ناصراً وأجدر إن قال هلم أن يجاب. هل تفقدون من حقوقكم وأعطياتكم شيئاً؟ فإني إلا أفعل في الفضل ما أريد فلم كنت إماماً إذن؟ أما والله ما عاب علي من عاب منكم أمراً أجهله ولا أتيت الذي أتيت إلا وأنا أعرفه.
ومن خطب علي كرم الله وجهه، حين بويع بالخلافة: إن الله أنزل كتاباً هادياً بين فيه الخير والشر، فخذوا بالخير ودعو الشر؛ الفرائض أدوها إلى الله تؤديكم إلى الجنة. إن الله حرم حرماً غير مجهولة، وفضل حرمة المسلم على الحرم كلها، وسدد بالإخلاص والتوحيد حقوق المسلمين. فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده بالحق؛ لا يحل أذى المسلم إلا بما يجب، فأدوا أمر العامة، وخاصة أحدكم الموت. فإن الناس أمامكم وإنما خلفكم الساعة تذكركم. تخففوا تلحقوا، فإنما ينتظر بالناس أخراهم. اتقوا الله عباد الله في عباده وبلاده، فإنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم، أطيعوا الله ولا تعصوه وإذا رأيتم الخر فخذوا به، وإذا رأيتم الشر فدعوه، واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض.
ومن خطب الحسن بن علي رضي الله عنه: اعلموا أن الحلم زين، والوقار مودة والصلة نعمة، والإكثار صلف، والعجلة سفه، والسفه ضعف، والقلق ورطة، ومجالسة أهل الدناءة شين، ومخالطة أهل الفسوق ريبة.
ومن خطب معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه بصفين: أيها الناس! إن الحرب صعبة، وإن السلم من ومبرة؛ ألا وقد زبنتنا الحرب وزبناها وألفتنا وألفناها، فنحن بنوها وهي أمنا. أيها الناس! استقيموا على سبيل الهدى، ودعوا الأهواء المضلة، والبدع المردية، ولست أراكم تزدادون بعد الوصاة إلا استجراء، ولن أزداد بعد الإعذار والحجة عليكم إلا عقوبة، وقد التقينا نحن وأنتم عند السيف، فمن شاء فليتحرك أو يتقهقر وما مثلي ومثلكم إلا كما قال ابن قيس بن رفاعة الأنصاري:
من يصل ناري بلا ذنب ولا ترة ** يصلى بنار كريم غير غدار

أنا النذير لكم مني مجاهرة ** كي لا ألام علي نهيي وإنذاري

ومن خطب عتبة بن أبي سفيان، وهو يومئذ أمير مصر وقد بلغه عن أهلها أمور أن صعد المنبر وقال: يا حاملي ألأم أنوف ركبت بين أعين! إنما قلمت أظفاري عنكم ليلين مسي إياكم، وسألتكم صلاحكم لكم إذ كان فسادكم راجعاً عليكم؛ فأما إذ أبيتم إلا الطعن على الأمراء والعتب على السلف والخلفاء، فوالله لأقطعن بطون السياط على ظهوركم! فإن حسمت مستشري دائكم وإلا فالسيف من ورائكم. فكم من عظة لنا قد صمت عنها آذانكم، وزجرة منا قد مجتها قلوبكم، ولست أبخل عليكم بالعقوبة إذا جدتم علينا بالمعصية، ولا مؤيساً لكم من المراجعة إلى الحسنى إن صرتم إلى التي هي أبر وأتقى.
ومن خطب زياد بن أبيه حين قدم إلى البصرة: أما بعد فإن الجهالة الجهلاء، والضلالة العمياء، والغي الموفي بأهله على النار ما فيه سفهاؤكم، ويشتمل عليه حلماؤكم من الأمور التي ينبت فيها الصغير، ولا يتحاشى عنها الكبير، كأنكم لم تقرأوا كتاب الله ولم تسمعوا ما أعد الله من الثواب الكريم لأهل طاعته، والعذاب الأليم لأهل معصيته في الزمن السرمدي الذي لا يزول. إنه ليس منكم إلا من طرفت عينه الدنيا، وسدت مسامعه الشهوات، واختار الفانية على الباقية؛ ولا تذكرون أنكم أحدثتم في الإسلام الحدث الذي لم تستبقوا إليه: من ترككم الضعيف يقهر، والضعيفة المسلوبة في النهار لا تنصر، والعدد غير قليل، والجمع غير مفترق. ألم يكن منكم نهاة يمنعون الغواة عن دلج الليل وغارة النهار! قربتم القرابة! وباعدتم الدين؛ تعتذرون بغير العذر، وتغضون على النكر. كل امرئ منكم يرد عن سفيه صنع من لا يخاف عقابا ولا يرجو معادا. فلم يزل بهم ما ترون من قيامكم دونهم حتى انتهكوا حرم الإسلام ثم أطرفوا وراءكم كنوساً في مكانس الريب. حرام علي الطعام والشراب حتى أضع هذه المواخير بالأرض هدماً وإحراقاً! إني رأيت آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله: لين في غير ضعف، وشدة في غير عنف، وإني لأقسم بالله لآخذن الولي بالمولى، والمقيم بالظاعن، والمطيع بالعاصي، حتى يلقى الرجل أخاه فيقول انج سعد فقد هلك سعيد أو تستقيم لي قناتكم. إن كذبة الأمير بلقاء مشهورة، فإذا تعلقتم عليؤ بكذبة فقد حلت لكم معصيتي، وقد كان بيني وبين قوم إحن فجعلت ذلك دبر أذني وتحت قدمي. إني لو علمت أن أحدكم قد قتله السل من بغضي لم أكشف له قناعاً، ولم أهتك له ستراً، حتى يبدي لي صفحته، فإذا فعل ذلك لم أناظره، فاستأنفوا أموركم وراعوا على أنفسكم، فرب مبتئس بقدومنا سيسر، ومسرور بقدومنا سيبتئس!. أيها الناس إنا قد أصبحنا لكم ساسة، وعنكم ذادة نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا، ونذود عنكم بفيء الله الذي خولنا، فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا، ولكم علينا العدل فيما ولينا، فاستوجبوا عدلنا وفيأنا بمناصحتكم لنا.
فقام إليه عبد الله بن الأهتم وقال: أيها الأمير لقد أوتيت الحكمة وفصل الخطاب قال: كذبت ذاك نبي الله داود.
ومن خطب عبد الملك بن مروان، لما قتل عمراً الأشدق بن سعيد بن العاص: إرموا بأبصاركم نحو أهل المعصية، واجعلوا سلفكم لمن غبر منكم عظة، ولا تكونوا أغفالاً من حسن الاعتبار، فتنزل بكم جائحة السطوات، وتجوس خلالكم بوادر النقمات، وتطأ رقابكم بثقلها العقوبة فتجعلكم همداً رفاتاً، وتشتمل عليكم بطون الأرض أمواتاً. فأي من قول قائل، ورشقة جاهل! فإنما بيني وبينكم أن أسمع النعوة فأصمم تصميم الحسام المطرور، وأصول صيال الحنق الموتور، وإنما هي المصافحة والمكافحة بظبات السيوف وأسنة الرماح، والمعاودة لكم بسوء الصباح، فتاب تائب وهدل خائب، والتوب مقبول، والإحسان مبذول، لمن عرف رشده وأبصر حظه. فانظروا لأنفسكم، وأقبلوا على حظوظكم، ولتكن أهل الطاعة يداً على أهل الجهل من سفهائكم، واستديموا النعمة التي ابتدأتكم برغيد عيشها ونفيس زينتها، فإنكم من ذلك بين فضيلتين: عاجل الخفض والدعة، وآجل الجزاء والمثوبة عصمكم الله من الشيطان وفتنته ونزغه، وأمدكم بحسن معزته وحفظه انهضوا رحمكم الله إلى قبض أعطياتكم غير مقطوعة عنكم، ولا مكدرة عليكم.
فخرج القوم من عنده بداراً كلهم يخاف أن تكون السطوة به.
ومن خطب الحجاج بن يوسف الثقفي عند قدومه الكوفة أميراً على العراق: يا أهل العراق أنا الحجاج بن يوسف!
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ** متى أضع العمامة تعرفوني

والله يا أهل العراق: إني لأرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها، وإني لصاحبها! والله لكأني أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى. يا أهل العراق! ما يغمز جانبي كتغماز التنين، ولا يقعقع لي بالشنان. ولقد فررت عن ذكاء، وفتشت عن تجربة، وأجريت من الغاية، وإن أمير المؤمنين عبد الله نثر كنانته بين يديه فعجم عيدانها عوداً عوداً، فوجدني أمرها عوداً، وأشدها مكسراً، فوجهني إليكم ورماكم بي يا أهل الكوفة، أهل الشقاق والنفاق، ومساوي الأخلاق: لأنكم طالما أوضعتم في الفتنة، واضطجعتم في منام الضلال، وسننتم سنن الغي، وأيم الله لألحونكم لحو العود، ولأقرعنكم قرع المروة، ولأعصبنكم عصب السلمة، ولأضربنكم ضرب غريبة الإبل. إني والله لا أحلف إلا صدقت، ولا أعد إلا وفيت. إياي وهذه الزرافات، وقال وما يقول، وكان وما يكون. وما أنتم وذاك يأهل العراق. إنما أنتم أهل قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله، فأتاها وعيد القرى من ربها. فاستوثقوا واعتدلوا ولا تميلوا، واسمعوا وأطيعوا، وشايعوا وبايعوا.
واعلموا أن ليس مني الإكثار والإهذار، ولا مع ذلك النفار ولا الفرار؛ إنما هو انتضاء هذا السيف، ثم لا يغمد الشتاء ولا الصيف، حتى يذل الله لأمير المؤمنين عزتكم، ويقيم له أودكم وصعركم. ثم إني وجدت الصدق من البر، ووجدت البر في الجنة، ووجدت الكذب من الفجور، ووجدت الفجور في النار. وإن أمير المؤمنين أمرني أن أعطيكم أعطياتكم، وأشخصكم لمجاهدة عدوكم وعدو أمير المؤمنين؛ وقد أمرت لكم بذلك وأجلتكم ثلاثاً، وأعطيت الله عهداً يؤاخذني به ويستوفيه مني: لئن تخلف منكم بعد قبض عطائه أحد لأضربن عنقه وانهبن ماله. ثم التفت إلى أهل الشام فقال: أنتم البطانة والعشيرة! والله لريحكم أطيب من ريح المسك الأذفر، وإنما أنتم كما قال الله تعالى: {وضرب الله مثلاً كلمة طيبة} الآية؛ والتفت إلى أهل العراق فقال: والله لريحكم أنتن من ريح الأبخر، وإنما أنتم كما قال الله {ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة} الآية.
ومن خطبه لما قدم البصرة يتهدد أهل العراق ويتوعدهم: أيها الناس: من أعياه داؤه فعندي دواؤه!، ومن استطال أجله، فعلي أن أعجله؛ ومن ثقل عليه رأسه وضعت عنه ثقله، ومن استطال ماضي عمره قصرت عليه باقيه. إن للشيطان طيفاً، وللسلطان سيفاً! فمن سقمت سريرته، صحت عقوبته؛ ومن وضعه ذنبه، رفعه صلبه؛ ومن لم تسعه العافية، لم تضق عنه الهلكة؛ ومن سبقته بادرة فمه، سبق بدنه بسفك دمه؛ إني أنذر ثم لا أنظر، وأحذر ثم لا أعذر، وأتوعد ثم لا أعفو. إنما أفسدكم ترنيق ولاتكم؛ ومن استرخى لبه، ساء أدبه. إن الحزم والعزم سكنا في وسطي، وأبدلاني به سيفي: فقائمه في يدي، ونجاده في عنقي، وذبابه قلادة لمن عصاني!؛ والله لا آمر أحدكم أن يخرج من باب من أبواب المسجد فيخرج من الباب الذي يليه إلا ضربت عنقه.
ولعمر بن عبد العزيز، وسليمان بن عبد الملك من خلفاء بني أمية، وأبي جعفر المنصور، وهارون الرشيد، وابنه المأمون من خلفاء بني العباس، وغيرهم من خلفاء الدولتين وأمرائهم خطب فائقة، وبلاغات معجبة رائقة، يضيق هذا الكتاب عن إيرادها، وقد أوردنا من ذلك ما فيه كفاية لبيب، ومقنع للأريب.
ومن خطب أبي بكر بن عبد الله أمير المدينة النبوية، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، والتحية والإكرام، وقد بلغه عن قوم من أهل المدينة أنهم ينالون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسعفهم آخرون على ذلك: أيها الناس! إني قائل قولاً فمن وعاه وأداه فعلى الله جزاؤه، ومن لم يعه فلا يعد من ذمامها؛ إن قصرتم عن تفصيله، فلن تعجزوا عن تحصيله.
فأرعوه أبصاركم وأوعوه أسماعكم وأشعروه قلوبكم؛ فالموعظة حياة، والمؤمنون إخوة؛ وعلى الله قصد السبيل، ولو شاء لهداكم أجمعين. فأتوا الهدى تهتدوا، واجتنبوا الغي ترشدوا، وأنيبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون. والله جل جلاله وتقدست أسماؤه أمركم بالجماعة ورضيها لكم. ونهاكم عن الفرقة وسخطها منكم. فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون. اعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحت بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها. جعلنا الله وإياكم ممن يتبع رضوانه ويجتنب سخطه فإنا نحن به وله. وإن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالدين، واختاره على العالمين، واختار له أصحاباً على الحق وزراء دون الخلق. اختصهم به وانتخبهم له، فصدقوه ونصروه وعزروه ووقروه؛ فلم يقدموا إلا بأمره، ولم يحجموا إلا عن رأيه، وكانوا أعوانه بعهده، وخلفاءه من بعده. فوصفهم فأحسن وصفهم وذكرهم فأثنى عليهم فقال وقوله الحق {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار} إلى قوله: {مغفرة وأجراً عظيماً} فمن غاظوه كفر وخاب وفجر وخسر. وقال الله جل وعز {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً} إلى قوله: {ربنا إنك رءوف رحيم} فمن خالف شريطة الله عليه لهم وأمره إياه فيهم فلا حق له في الفيء، ولا سهم له في الإسلام في آي كثيرة من القرآن، فمرق مارقة من الدين. وفارقوا المسلمين وجعلوهم عصين. وحزبوا أجزاباً، وأشابات وأوشاباً. فخالفوا كتاب الله فيهم فخأبوا وخسروا الدنيا والآخرة. ذلك هو الخسران المبين. أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم. مالي أرى عيوناً خزراً، ورقاباً صعراً، وبطوناً بجرى، شجى لا يسيغه الماء، وداء لا يشرب فيه الدواء. أفنضب عنكم الذكر صفحاً أن كنتم قوماً مسرفين. كلا والله بل هو الهناء والطلاء حتى يظهر العذر، ويبوح السر، ويضح العيب، ويشوس الجيب. فإنكم لم تخلقوا عبثاً ولم تتركوا سدى، ويحكم إني لست أتاوياً أعلم، ولا بدوياً أفهم. قد حلبتكم أشطراً، وقلبتكم أبطناً وأظهراً. فعرفت أنحاءكم وأهواءكم، وعلمت أن قوماً أظهروا الإسلام بألسنتهم، وأسروا الكفر في قلوبهم، فضربوا بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض، وولدوا الروايات فيهم، وضربوا الأمثال، ووجدوا على ذلك من أهل الجهل من أبنائهم أعواناً يأذنون لهم، ويصغون إليهم، مهلاً مهلا! قبل وقوع القوارع وطول الروائع هذا لهذا ومع هذا، فلست أعتنش آئباً ولا تائباً، عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام، فأسروا خيراً وأظهروه واجهروا به وأخلصوه. وطالما مشيتم القهقرى ناكصين. وليعلم من أدبر وأصر أنها موعظة بين يدي نقمة، ولست أدعوكم إلى هوى يتبع، ولا إلى رأي يبتدع. إنما أدعوكم إلى الطريقة المثلى، التي فيها خير الآخرة والأولى، فمن أجاب فإلى رشده، ومن عمي فعن قصده. فهلم إلى الشرائع، الجدائع، ولا تؤولوا عن سبيل المؤمنين، ولا تستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير {بئس للظالمين بدلاً}. إياكم وبنيات الطريق، فعندها الترنيق والترهيق. وعليكم بالجادة فيه أسد وأورد، ودعوا الأماني فقد أودت من كان قبلكم. وأن ليس للإنسان إلا ما سعى. ولله الآخرة والأولى. ولا تفتروا على الله الكذب فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى. ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
ومن خطب خالد بن عبد الله أمير البصرة: أيها الناس! نافسوا في المكارم وسارعوا إلى المغانم. واشتروا الحمد بالجود، ولا تكسبوا بالمطل ذماً ولا تعتدوا بالمعروف ما لم تعجلوه، ومهما يكن لأحد منكم عند أحد نعمة فلم يبلغ شكرها، فالله أحسن لها جزاء، وأجزل عليها عطاء. واعلموا أن حوائج الناس إليكم، نعمة من الله عليكم، فلا تملوا النعم فتحولوها نقماً. واعلموا أن أفضل المال ما أكسب أجراً، وأورث ذكراً. ولو رأيتم المعروف رجلاً، رأيتموه حسناً جميلاً يسر الناظرين. ولو رأيتم البخل رجلاً، رأيتموه مشوهاً قبيحاً تنفر عنه القلوب، وتغضي عنه الأبصار. أيها الناس! إن أجود الناس من أعطى من لا يرجوه، وأعظم الناس عفواً من عفا عن قدرة، وأوصل الناس من وصل من قطعه؛ ومن لم يطب حرثه لم يزك نبته، والأصول عن مغارسها تنمو وبأصولها تسمو. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
ومن خطب قطري بن الفجاءة خطبته المشهورة في ذم الدنيا والتحذير عنها، وهي: أما بعد. فإني أحذركم الدنيا، فإنها حلوة خضرة، حفت بالشهوات، وراقت بالقليل وتحببت بالعاجلة، وحليت بالآمال، وتزينت بالغرور. لا تدوم نصرتها، ولا تؤمن فجعتها. غرارة، ضرارة، وخاتلة، زائلة ونافذة، بائدة، أكالة، غوالة. لا تعدو إذ تناهت إلى أمنية أهل الرغبة فيها والرضا عنها أن تكون كما قال الله تعالى: {كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدراً} مع أن أمراً لم يكن منها في حبرة، لغا أعقبته بعدها عبرة، ولم يلق من سرائها بطناً، إلا منحته من ضرائها ظهراً. ولم تصله غيثة رخاء، إلا هطلت عليه مزنة بلاء. وحرية إذا أصبحت له منتصرة أن تمسي له خاذلة متنكرة. وأي جانب منها اعذوذب واحلولى، أمر عليه منها جانب وأوبا. فإن آتت امرأ من غصونها ورقاً أرهقته من نوائبها تعبا. ولم يمس منها امرؤ في جناح أمن إلا أصبح منها على قوادم خوف، غرارة: غرور ما فيها؛ فانية: فان من عليها، لا خير في شيء من زادها إلا التقوى. من أقل منها استكثر مما يؤممنه. ومن استكثر منها، استكثر مما يوبقه ويطيل حزنه، ويبكي عينه. كم واثق بها قد فجعته، وذي حكم ثنته إليها قد صرعته، وذي احتيال فيها قد خدعته. وكم ذي أبهة فيها قد صيرته حقيراً، وذي نخوة قد ردته ذليلاً. ومن ذي تاج قد كبته لليدين والفم. سلطانها دول. وعيشها رنق، وعذبها أجاج، وحلوها صبر، وغذاؤها سمام، وأسبابها رمام. قطافها سلع. حيها بعرض موت، وصحيحها بعرض سقم. منيعها بعرض اهتضام. وملكها مسلوب، وعزيزها مغلوب. وسليمها منكوب، وجارها محروب. مع أن وراء ذلك سكرات الموت، وهول المطلع، والوقوف بين يدي الحكم العدل {ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى}. ألستم في مساكن من كان قبلكم أطول منكم أعماراً، وأوضح منكم آثاراً، وأعد عديداً، وأكثف جنوداً، وأشد عتوداً. تعبدوا للدنيا أي تعبد، وآثروها أي إيثار، وظعنوا عنها بالكره والصغار. فهل بلغكم أن الدنيا سمحت لهم نفساً بفدية، أو أغنت عنهم فيما قد أهلكتهم بخطب بل أرهقتهم بالقوادح، وضعضعتهم بالنوائب، وعقرتهم بالفجائع. وقد رأيتم تنكرها لمن رادها وآثرها وأخلد إليها، حين ظعنوا عنها لفراق إلى الأبد إلى آخر الأمد. هل زودتهم إلا السغب؟ وأحلتهم إلا الضنك، أو نورت لهم إلا الظلمة، أو أعقبتهم إلا الندامة؟ أفهذه تؤثرون أم على هذه تحرصون أم إليها تطمئنون؟ يقول الله جل ذكره {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون} بئست الدار لمن أقام فيها! فاعلموا إذ أنتم تعلمون أنكم تاركوها الأبد، فإنما هي كما وصفها الله تعالى باللعب واللهو، وقد قال تعالى: {أتبنون بكل ريع آية تعبثون * وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون * وإذا بطشتم بطشتم جبارين}.
إلى غير ذلك من خطب خلفاء الدولتين وأمرائهم مما يطول القول بإيراده، ويخرج الكتاب بذكره عن حده.